البناء الدرامي في روايات غابرييل غارسيا ماركيز

غابرييل غارسيا ماركيز






البناء الدرامي في روايات غابرييل غارسيا ماركيز


نشر في مجلة الثقافة الاجنبية العدد3 , 2014
مقدمة
((ان تجسيد الحقيقة كما هي بقوة ودقة متناهية ...هي السعادة الحقيقية للاديب ,حتى وان كانت تلك الحقيقة لا تستجيب لمشاربه)).
هذا ما كتبه الروائي الروسي الكبير (ايفان تورغينيف) بعد صدور روايته الشهيرة (الاباء والبنون) ولعل هذا ليس هاجسه هو فحسب بل هاجس كل الروائيين الذين قدموا روائع ادبية تجاوزت حدود الزمان والمكان وصارت ارثا انسانيا خالدا .
ان هذه الروائع  التي حازت شهرة عالمية وترجمت الى معظم اللغات هي تلك التي تمس عمق الروح الانسانية التي تبقى ذاتها باختلاف الزمان والمكان فالبيئة تختلف والظروف السياسية والاقتصادية تتباين من بلد لاخر وكذلك عادات الشعوب وتقاليدها لكن الروح الانسانية تبقى ذاتها تبحث عن السعادة والحب وتطمح للقوة والسلطة وتخشى الالم والحزن والموت فدوما هناك (كلكامش ) الباحث عن الخلود و(عطيل )الغيور و(مجنون ليلى )العاشق  و(ليدي مكبث ) المتعطشة للسلطة و (البخيل )وغيرها  من الشخصيات الدرامية التي اصبحت ايقونات ادبية ,وكلما كانت فكرة الرواية تتناول  حالة عامة اوفكرة انسانية  كانت اقرب للقارىء باختلاف انتمائه وثقافته  فمختلف الشعوب عاشت (الحرب والسلام ) او عانت من دكتاتور يحمل صفات (يوليوس قيصر).
ان ادب اي شعب من الشعوب يعكس واقعه اما كيفية ذلك فهو مايميز ادبا عن اخر وعملا ادبيا عن غيره.

لمحة عن الادب اللاتيني :
كان الاسبان المكتشفين الاوائل للعالم الجديد والقوى الاكثر هيمنة عليه ثم انحسر نفوذهم عن قارة امريكا الشمالية ليقتصر على الامريكيتين الوسطى والجنوبية لذلك نجد تشابها كبيرا بين الادب الاسباني واللاتيني خصوصا بما يتعلق بالتمسك الشديد بالدين واعتماد الحكايات والاغاني الشعبية....الا ان السمة الابرز للادب اللاتيني _خصوصا في القرنين التاسع عشر والعشرين_ هي روح الثورة والتمرد وهي انعكاس لما عاشته القارة من حركات تحررية ضد الاستعمار الاوربي وصراعات مع الراسمالية الامريكية اضافة للثورات المتعاقبة ضد الحكام المستبدين وضد استغلال العمال والمزارعين من قبل الاقطاع والشركات وقد تجسدت كل هذه الاحداث المتعاقبة والمتزامنة في نتاج الادباء اللاتينيين .


ورغم تنوع المدارس الادبية للادب اللاتيني بين الكلاسيكية والرمزية والسريالية الا ان ابرزها كانت الواقعية  ولانها  واقعية ممتزجة بالخرافة والاساطير  فقد صارت ( الواقعية السحرية ) وهي سمة بارزة للادب الللاتيني ورغم عدم وجود تعريف محدد للمصطلح الا انها باختصار الواقعية الممتزجة بالفانتازيا .
وينتمي لهذه المدرسة عدد كبير من الادباء اللاتينيين من ابرزهم (غابرييل غارسيا ماركيز).


غابرييل غارسيا ماركيز   1924-_ 2014
ولد(ماركيز) في مدينة اركانتاكا الكولومبية  وتوفي في مكسيكو سيتي  التي قضى الشطر الاكبر من حياته فيها,وهو روائي وقاص وصحفي  بدا حياته الادبية سنة   1947  واستمر في عطائه حتى وفاته تاركا لنا كما غزيرا من الاعمال تنوع بين القصة القصيرة والمقالة والمسرحية والرواية والمجموعات القصصية التي نالت شهرة واسعة وترجمت الى معظم لغات العالم وقد حاز العديد من الاوسمة  والجوائز الوطنية والعالمية اهمها جائزة نوبل في الادب سنة 1982  وهو الاديب اللاتيني الرابع الذي يحصل عليها  *  .
تاثر (ماركيز) في طفولته بحكايات جدته وبشخصية جده العقيد* وبالاحداث السياسية المتقلبة التي عانتها كولومبيا والقارة اللاتينية عموما في بداية القرن العشرين وانعكس ذلك جليا في كتاباته .
ورغم انه كان صحفيا بارزا وله العديد من القصص الناجحة الا انه حاز شهرته العالمية من خلال رواياته التي نالت الاهتمام الاكبر من النقاد والباحثين.

البناء الدرامي لرواياته :
الفكرة : لكل عمل ادبي او فني فكرة تمثل روحه اوجوهره وتتنوع الافكار لدى (ماركيز ) فهي (الحب) في ( الحب في زمن الكوليرا ) والموت في (في ساعة نحس ) و(وقائع موت معلن )الا ان الفكرة المهيمنة في اعماله هي العزلة التي جسدتها روايته الشهيرة (مئة عام من العزلة ) وهي اما عزلة جماعية ان صح التعبير  فهي عزلة اجيال متعاقبة ومدن.. او عزلة فردية كما هي في (خريف البطريرك) و(الجنرال في متاهته)
ويقول (ماركيز) في مقابلة معه ((ان العزلة شعور متاصل في الانسان منذ بدء الخليقة ))
الصراع :  لا يخلو اي عمل درامي من الصراع   الذي يدفع بالحدث الى الامام والصراع في روايات (ماركيز) متنوع ومتشعب فهو صراع الانسان مع نفسه  وصراعه مع الديكاتورية ومع الحرب والفقر والمرض .
الا ان صراع الانسان الذاتي_مع نفسه _ يبدو اكثر وضوحا في روايتيه (خريف البطريرك) و (الجنرال في متاهته)فنجد انه ياخذ الحيز الاكبر من الرواية .
الشخصيات :شخصيات (ماركيز) قادمة من الواقع ونابضة بالحياة لكنه يغوص في سبر اغوارها حتى يصل الى العمق الذي يجعل منها نماذج فريدة شان كل الشخصيات الدرامية العالمية وقد تاثر (ماركيز)منذ بداياته بالادب اليوناني وقام بدراسته دراسة مستفيضة خصوصا فيما يتعلق ببناء الشخصيات الدرامية  الفريدة مثل (اوديب) و(انتيغون) و(برومثيوس)  وغيرها .
وكما تغني تجارب الحياة شخصية الانسان في  الواقع تغني احداث الرواية شخصيات ماركيز فمثلا :شخصية (فلورنتينو) في (الحب في زمن الكوليرا )  ففي  بداية الرواية  هو شاب صغير عاشق الا ان استمرار الحب لمدة 50 عاما جعل هذا العاشق شخصية استثنائية .
وشخصية الدكتاتور في (خريف البطريرك ) جمع فيها صفات كل دكتاتوري التاريخ وجعلها تعيش اكثر من 100 سنة ليبين ماساة الشعوب تحت حكمها.
الحوار : حوارات (ماركيز ) سلسة وشيقة ومعبرة عن ابعاد شخصياته وينفرد احيانا باستخدام صيغ تقتضيها طبيعة الرواية ففي(وقائع موت معلن ) نجد الكثير من الحوارت اشبه بالتقارير الاخبارية لان فكرة الرواية تقوم على اساس خبري وفي (خريف البطريرك ) نجد صيغ الافعال تتغير باستمرار من الماضي الى المضارع وبالعكس للدلالة ان شخصية الدكتاتور مستمرة الوجود من الماضي الى الحاضر  لكنها في نفس الوقت محكومة بالفناء .
التاريخ : يعتبر الكثير من النقاد اعمال ماركيز وثائق تاريخية مهمة لقارة امريكا الجنوبية ومنطقة الكاريبي في النصف الثاني من القرن العشرين فما من رواية من رواياته تخلو من وقائع تاريخية مهمة مثل الحروب الاهلية والثورات واستكشاف الذهب في امريكا الجنوبية والاضراب في مزارع الموز (مئة عام من العزلة ) تكرر وباء الكوليرا (الحب في زمن الكوليرا ) اما رواية (الجنرال في متاهته )فهي رؤية جديدةلسيرة المناضل الشهير (سيمون بوليفار).
الامتداد الزمني : تمتد معظم روايات ماركيز على رقعة زمنية طويلة  وليس هذا من باب التطويل او السرد القصصي بل انه ركيزة اساسية لفكرة الرواية ففي (مئة عام من العزلة ) يمتد زمن الرواية الى مئة عام وتتعاقب في عائلة (بوينديا ) 6اجيال وذلك ليبين عزلة هذه العائلة   والمنطقة التي تقطنها عن العالم,وفي (الحب في زمن الكوليرا )تمتد الاحداث لاكثر من 50 عاما لبيان قوة الحب الذي يربط بين البطلين .

المسار الدائري :يشعر المرء عند قراءة اعمال  (ماركيز ) انه يدور في حلقة كبيرة فالحبكة لا تصل الى الذروة فالحل  في خط مستقيم كما هي العادة بل تتكرر وتعود احيانا الى نقطة البداية  وهذا جزء من فلسفة ماركيز للحياة فالانسان يأتي من العدم ويموت عائدا الى العدم والزمن يعيد نفسه في حياة الانسان والشعوب .
ففي (مئة عام العزلة )تتكرر اسماء الشخصيات عبر اجيال العائلة بل ويتشابه مصيرها فكل من تحمل اسم (ريميديوس )تموت بطريقة بشعة وفي (الحب في زمن الكوليرا ) يلتقي الحبيبان في اول الرواية ويتعاهدان على الحب الابدي ثم يلتقيان مرة اخرى في اخر الرواية ليتعاهدا على الحب الابدي من جديد.
الروح الشعبية : تعج روايات ماركيز بالروح الشعبية فنجد دوما حكايات الجدة واغاني الصيادين ورقصات الغجر والعرافات وقراءة الطالع .
العنف : يعيب الكثير من النقاد على روايات( ماركيز ) العنف وبشاعة لحظات الموت والقتل والتعذيب ويرى اخرون انه اراد بذلك ان يصور الواقع المرير بدون رتوش وينقله كما عاشه وكي يدعم به فكرة الرواية فالعنف في العلاقات الحسية في (مئة عام من العزلة ) هو نتيجة لما تعانية شخصيات الرواية من العزلة والاغتراب وبشاعة لحظات الموت الوبائي في (الحب في زمن الكوليرا ) دعم لفكرة استمرارية الحب وقوته برغم كل الظروف, وصور القمع والاضطهاد في (خريف البطريرك) تجسيد لظلم اي دكتاتور في العالم .

ورغم كل ما ذكر فان هناك الكثير  في اعمال ماركيز ليس الروائية فحسب بل القصصية والصحفية منها مما لا يزال في طور الترجمة والدراسة والبحث من قبل النقاد والمختصين وعشاق الادب الللاتيني .


الهوامش *
1- سبق (ماركيز ) في نيل جائزة نوبل للادب من الادباء اللاتينين الاديبة غابرييلا مسترال من تشيلي  والاديب( ميغيل انخيل  استورياس) من غواتيمالا والشاعر (بابلو نيرودا) من تشيلي .
2-اسبغ (ماركيز) الكثير من صفات جده على شخصية العقيد (اورليانو بوينديا ) احد ابطال (مئة عام من العزلة )

تعليقات